فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



«مجوس هذه الأمة» يكون معناه الذين نسبتهم إلى هذه الأمة كنسبة المجوس إلى الأمة المتقدمة، لكن الأمة المتقدمة أكثرهم كفرة، والمجوس نوع منهم أضعف شبهة وأشد مخالفة للعقل فكذلك القدرية في هذه الأمة تكون نوعًا منهم أضعف دليلًا ولا يقتضي ذلك الجزم بكونهم في النار فالحق أن القدري هو الذي ينكر قدرة الله تعالى، إن قلنا: إن النسبة للنفي أو الذي يثبت قدرة غير الله تعالى على الحوادث إن قلنا: إن النسبة للإثبات وحينئذ يقطع بكونه: {فِى ضلال وَسُعُرٍ} وإنه ذائق مس سقر.
البحث الثاني: في بيان من يدخل في القدرية التي في النص ممن هو منتسب إلى أنه من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، إن قلنا: القدرية سموا بهذا الاسم لنفيهم قدرة الله تعالى فالذي يقول لا قدرة لله على تحريك العبد بحركة هي الصلاة وحركة هي الزنا مع أن ذلك أمر ممكن لا يبعد دخوله فيهم، وأما الذي يقول: بأن الله قادر غير أنه لم يجبره وتركه مع داعية العبد كالوالد الذي يجرب الصبي في حمل شيء تركه معه لا لعجز الوالد بل للابتلاء والامتحان، لا كالمفلوج الذي لا قوة له إذا قال لغيره: احمل هذا فلا يدخل فيهم ظاهرًا وإن كان مخطئًا، وإن قلنا إن القدرية سموا بهذا الاسم لإثباتهم القدرة على الحوادث لغير الله من الكواكب، والجبري الذي قال: هو الحائط الساقط الذي لا يجوز تكليفه بشيء لصدور الفعل من غيره وهم أهل الإباحة، فلا شك في دخوله في القدرية فإنه يكفر بنفيه التكليف وأما الذي يقول: خلق الله تعالى فينا الأفعال وقدرها وكلفنا، ولا يسأل عما يفعل فما هو منهم.
البحث الثالث: اختلف القائلون في التعصب أن الاسم بالمعتزلة أحق أم بالأشاعرة؟ فقالت: المعتزلة الاسم بكم أحق لأن النسبة تكون للإثبات لا للنفي، يقال للدهري: دهري لقوله بالدهر، وإثباته، وللمباحي إباحي لإثباته الإباحة وللتنوية تنوية لإثباتهم الإثنين وهما النور والظلمة، وكذلك أمثله وأنتم تثبتون القدر، وقالت الأشاعرة: النصوص تدل على أن القدري من ينفي قدرة الله تعالى ومشركو قريش ما كانوا قدرية إلا لإثباتهم قدرة لغير الله، قالت: المعتزلة إنما سمي المشركون قدرية لأنهم قالوا: إن كان قادرًا على الحوادث كما تقول يا محمد فلو شاء الله لهدانا ولو شاء لأطعم الفقير، فاعتقدوا أن من لوازم قدرة الله تعالى على الحوادث خلقه الهداية فيهم إن شاء، وهذا مذهبكم أيها الأشاعرة، والحق الصراح أن كل واحد من المسلمين الذين ذهبوا إلى المذهبين خارج عن القدرية، ولا يصير واحد منهم قدريًا إلا إذا صار النافي نافيًا للقدرة والمثبت منكرًا للتكليف.
المسألة الثانية:
المجرمون هم المشركون هاهنا كما في قوله تعالى: {وَلَوْ ترى إِذِ المجرمون نَاكِسُواْ رُؤُوسَهُمْ} [السجدة: 12] وقوله: {يَوَدُّ المجرم لَوْ يَفْتَدِي} [المعارج: 11] وفي قوله: {يُعْرَفُ المجرمون بسيماهم} [الرحمن: 41] فالآية عامة، وإن نزلت في قوم خاص.
وجرمهم تكذيب الرسل والنذر بالإشراك وإنكار الحشر وإنكار قدرة الله تعالى على الإحياء بعد الإماتة، وعلى غيره من الحوادث.
المسألة الثالثة:
{فِى ضلال وَسُعُرٍ} يحتمل وجوهًا ثلاثة أحدها: الجمع بين الأمرين في الدنيا أي هم في الدنيا في ضلال وجنون لا يعقلون ولا يهتدون، وعلى هذا فقوله: {يُسْحَبُونَ} بيان حالهم في تلك الصورة وهو أقرب ثانيها: الجمع في الآخرة أي هم في ضلال الآخرة وسعر أيضًا.
أما السعر فكونهم فيها ظاهر، وأما الضلال فلا يجدون إلى مقصدهم أو إلى ما يصلح مقصدًا وهم متحيرون سبيلًا، فإن قيل: الصحيح هو الوجه الأخير لا غير لأن قوله تعالى: {يَوْمَ يُسْحَبُونَ} ظرف القول أي يوم يسحبون يقال لهم ذوقوا، وسنبين ذلك فنقول: {يَوْمَ يُسْحَبُونَ} يحتمل أن يكون منصوبًا بعامل مذكور أو مفهوم غير مذكور، والاحتمال الأول له وجهان أحدهما: العامل سابق وهو معنى كائن ومستقر غير أن ذلك صار نسيًا منسيًا ثانيهما: العامل متأخر وهو قوله: {ذُوقُواْ} تقديره: ذوقوا مس سقر يوم يسحب المجرمون، والخطاب حينئذ مع من خوطب بقوله: {أكفاركم خَيْرٌ مّنْ أُوْلَئِكُمْ أَمْ لَكُم بَرَاءةٌ} [القمر: 43] والاحتمال الثالث: أن المفهوم هو أن يقال لهم: يوم يسحبون ذوقوا، وهذا هو المشهور، وقوله تعالى: {ذُوقُواْ} استعارة وفيه حكمة وهو أن الذوق من جملة الإدراكات فإن المذوق إذا لاقى اللسان يدرك أيضًا حرارته وبرودته وخشونته وملاسته، كما يدرك سائر أعضائه الحسية ويدرك أيضًا طعمه ولا يدركه غير اللسان، فإدراك اللسان أتم، فإذا تأذى من نار تأذى بحرارته ومرارته إن كان الحار أو غيره لا يتأذى إلا بحرارته فإذن الذوق إدراك لمسي أتم من غيره في الملموسات فقال: {ذُوقُواْ} إشارة إلى أن إدراكهم بالذوق أتم الإدراكات فيجتمع في العذاب شدته وإيلامه بطول مدته ودوامه، ويكون المدرك له لا عذر له يشغله وإنما هو على أتم ما يكون من الإدراك فيحصل الألم العظيم.
وقد ذكرنا أن على قول الأكثرين يقال لهم أو نقول مضمر.
وقد ذكرنا أنه لا حاجة إلى الإضمار إذا كان الخطاب مع غير من قيل في حقهم: {إِنَّ المجرمين في ضلال} فإنه يصير كأنه قال: ذوقوا أيها المكذبون بمحمد صلى الله عليه وسلم مس سقر يوم يسحب المجرمون المتقدمون في النار. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النذر} يعني القبط و{النُّذُرُ} موسى وهارون.
وقد يطلق لفظ الجمع على الاثنين.
{كَذَّبُواْ بِئَايَاتِنَا} معجزاتنا الدالة على توحيدنا ونبوّة أنبيائنا؛ وهي العصا، واليد، والسَّنون، والطمسة، والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم.
وقيل: {النذر} الرسل؛ فقد جاءهم يوسف وبنوه إلى أن جاءهم موسى.
وقيل: {النذر} الإنذار.
{فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عِزِيزٍ} أي غالب في انتقامه {مُّقْتَدِرٍ} أي قادر على ما أراد.
قوله تعالى: {أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِّنْ أُوْلَئِكُمْ} خاطب العرب.
وقيل: أراد كفار أمّة محمد صلى الله عليه وسلم.
وقيل: استفهام، وهو استفهام إنكار ومعناه النفي؛ أي ليس كفاركم خيرًا من كفار من تقدّم من الأمم الذين أهلكوا بكفرهم.
{أَمْ لَكُم بَرَاءَةٌ فِي الزبر} أي في الكتب المنزلة على الأنبياء بالسلامة من العقوبة.
وقال ابن عباس: أم لكم في اللوح المحفوظ براءة من العذاب.
{أَمْ يَقولونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ} أي جماعة لا تطاق لكثرة عددهم وقوتهم، ولم يقل منتصرين اتباعا لرؤوس الآي؛ فرد الله عليهم فقال: {سَيُهْزَمُ الجمع} أي جمع كفار مكة، وقد كان ذلك يوم بدر وغيره.
وقراءة العامة {سَيُهْزَمُ} بالياء على ما لم يسم فاعله {الْجَمْعُ} بالرفع.
وقرأ رُوَيس عن يعقوب {سَنَهْزِمُ} بالنون وكسر الزاي {الْجَمْعَ} نصبًا.
{وَيُوَلُّونَ الدبر} قراءة العامة بالياء على الخبر عنهم.
وقرأ عيسى وابن إسحاق ورُوَيس عن يعقوب {وَتُوَلُّونَ} بالتاء على الخطاب.
و {الدبر} اسم جنس كالدرهم والدينار فوحّد والمراد الجمع لأجل رؤوس الآي.
وقال مقاتل: ضرب أبو جهل فرسه يوم بدر فتقدّم من الصّف وقال: نحن ننتصر اليوم من محمد وأصحابه؛ فأنزل الله تعالى: {نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ سَيُهْزَمُ الجمع وَيُوَلُّونَ الدبر}.
وقال سعيد بن جبير قال سعد بن أبي وقّاص: لما نزل قوله تعالى: {سَيُهْزَمُ الجمع وَيُوَلُّونَ الدبر} كنت لا أدري أي الجمع ينهزم، فلما كان يوم بَدْر رأيت النبيّ صلى الله عليه وسلم يَثِب في الدرع ويقول: اللهم إن قريشًا جاءتك تُحَادُّك وتُحادُّ رسولَك بفخرها وخُيَلائها فأخنهم الغداةَ ثم قال: {سَيُهْزَمُ الجمع وَيُوَلُّونَ الدبر} فعرفت تأويلها وهذا من معجزات النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ لأنه أخبر عن غيب فكان كما أخبر.
أخنى عليه الدهر: أي أتى عليه وأهلكه، ومنه قول النابغة:
أَخْنَى عليه الذي أَخْنَى على لُبَدِ

وأخنيت عليه: أفسدت.
قال ابن عباس: كان بين نزول هذه الآية وبين بدر سبع سنين؛ فالآية على هذا مكية.
وفي البخاري عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: لقد أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم بمكة وإني لجارية ألعب: {بَلِ الساعة مَوْعِدُهُمْ والساعة أدهى وَأَمَرُّ}.
وعن ابن عباس أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال وهو في قبة له يوم بدر: «أَنْشدُكَ عهدَك ووعدَك اللّهم إن شئت لم تُعبدْ بعدَ اليوم أبدًا» فأخذ أبو بكر رضي الله عنه بيده وقال: حسبك يا رسول الله فقد ألححت على ربك؛ وهو في الدّرْع فخرج وهو يقول: {سَيُهْزَمُ الجمع وَيُوَلُّونَ الدبر} {بَلِ الساعة مَوْعِدُهُمْ} يريد القيامة {والساعة أدهى وَأَمَرُّ} أي أدهى وأمرّ مما لحقهم يوم بدر.
و {أَدْهَى} من الداهية وهي الأمر العظيم؛ يقال: دهاه أمر كذا أي أصابه دهوًا ودهيًا.
وقال ابن السكيت: دهته داهية دهواء ودهياء وهي توكيد لها.
قوله تعالى: {إِنَّ المجرمين فِي ضَلاَلٍ وَسُعُرٍ}.
فيه أربع مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {إِنَّ المجرمين فِي ضَلاَلٍ وَسُعُرٍ} أي في حَيْدةٍ عن الحق و{سُعُرٍ} أي احتراق.
وقيل: جنون على ما تقدّم في هذه السورة.
{يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النار على وُجُوهِهِمْ ذُوقُواْ مَسَّ سَقَرَ} في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: جاء مشركو قريش يخاصمون رسول الله صلى الله عليه وسلم في القَدَر فنزلت: {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النار على وُجُوهِهِمْ ذُوقُواْ مَسَّ سَقَرَ} {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} خرجه الترمذي أيضًا وقال: حديث حسن صحيح.
وروى مسلم عن طاوس قال: أدركت ناسًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: كل شيء بقَدَر.
قال: وسمعت عبد الله بن عمر يقول: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «كلٌّ شيءٍ بقَدر حتى العَجْز والكَيْس أو الكَيْس والعَجْز» وهذا إبطال لمذهب القدَرية.
{ذُوقُواْ} أي يقال لهم ذوقوا، ومسّها ما يجدون من الألم عند الوقوع فيها.
و {سَقَر} اسم من أسماء جهنم لا ينصرف؛ لأنه اسم مؤنث معرفة، وكذا لَظَى وجهنم.
وقال عطاء: {سَقَر} الطبق السادس من جهنم.
وقال قُطْرب: {سَقَر} من سَقَرته الشمسُ وصَقَرته لَوّحَتْه.
ويوم مُسَمْقِرٌ ومُصَمْقِرٌ: شديدُ الحرّ. اهـ.

.قال الألوسي:

{وَلَقَدْ جَاء ءالَ فِرْعَوْنَ النذر}.
صدرت قصتهم بالتوكيد القسمي لإبراز كمال الاعتناء بشأنها لغاية عظم ما فيها من الآيات وكثرتها وهول ما لاقوه من العذاب وقوة إيجابها للاتعاظ والاكتفاء بذكر آل فرعون للعلم بأن نفسه أولى بذلك فإنه رأس الطغيان ومدعي الألوهية، والقول: بأنه إشارة إلى إسلامه مما لا يلتفت إليه، و{النذر} إن كان جمع نذير بمعنى الإنذار فالأمر ظاهر وكذا إن كان مصدرًا، وأما إن كان جمع نذير بمعنى المنذر فالمراد به موسى وهرون وغيرهما لأنهما عرضا عليهم ما أنذر به المرسلون أي وبالله تعالى لقد جاءهم المنذرون، أو الإنذارات، أو الإنذار، وقوله تعالى: {كَذَّبُواْ بآياتنا كُلَّهَا} استئناف مبني على سؤال نشأ من حكاية مجيء النذر كأنه قيل: فماذا فعل آل فرعون حينئذ؟ فقيل: كذبوا بجميع آياتنا وهي آيات الأنبياء كلهم عليهم السلام فإن تكذيب البعض تكذيب للكل، أو هي الآيات التسع، وجوز الواحدي أن يراد بالنذر نفس الآيات فقوله سبحانه: {بآياتنا} من إقامة الظاهر مقام الضمير والأصل كذبوا بها، وزعم بعض غلاة الشيعة وهم المسلمون بالكشفية في زماننا أن المراد بالآيات كلها علي كرم الله تعالى وجهه فإنه الإمام المبين المذكور في قوله تعالى: {وَكُلَّ شيء أحصيناه في إِمَامٍ مُّبِينٍ} [يس: 12] وأنه كرم الله تعالى وجهه ظهر مع موسى عليه السلام لفرعون وقومه فلم يؤمنوا وهذا من الهذيان بمكان نسأل الله تعالى وجهه ظهر مع موسى عليه السلام لفرعون وقومه فلم يؤمنوا وهذا من الهذيان بمكان نسأل الله تعالى العفو والعافية {فأخذناهم} أي آل فرعون، وزعم بعض أن ضمير {كَذَّبُواْ} وضمير أخذناهم عائدان على جميع من تقدم ذكره من الأمم وتم الكلام عند قوله تعالى: {النذر} [القمر: 41] وليس بشيء، والفاء للتفريع أي {فأخذناهم} وقهرناهم لأجل تكذيبهم.
{أَخْذَ عِزِيزٍ} لا يغالب {مُّقْتَدِرٍ}.
لا يعجزه شيء، ونصب أخذ على المصدرية لا على قصد التشبيه.
{أكفاركم خَيْرٌ مّنْ أُوْلَئِكُمْ} أي الكفار المعدودين قوم نوح وهود وصالح ولوط وآل فرعون، والمراد الخيرية باعتبار الدنيا وزينتها ككثرة القوة والشدة ووفور العدد والعدة، أو باعتبار لين الشكيمة في الكفر بأن يكون الكفار المحدث عنهم بالخيرية أقل عنادًا وأقرب طاعة وانقيادًا، وظاهر كلام كثير أن الخطاب هنا عام للمسلمين وغيرهم حيث قالوا: {أكفاركم} يا معشر العرب {خَيْرٌ} الخ والاستفهام إنكاري في معنى النفي فكأنه قيل: ما كفاركم خير من أولئكم الكفار المعدودين بأن يكونوا أكثر منهم قوة وشدة وأوفر عددًا وعدة، أو بأن يكونوا ألين شكيمة في الكفر والعصيان والضلال والطغيان بل هم دونهم في القوة وما أشبهها من زينة الدنيا، أو أسوأ حالًا منهم في الكفر، وقد أصاب من هو خير ما أطاب فكيف يطمعون هم في أن لا يصيبهم نحو ذلك، وكذا قيل: في الخطاب في قوله تعالى: {أَمْ لَكُم بَرَاءةٌ في الزبر} وجعل بتقدير أم لكفاركم وهو إضراب وانتقال إلى تنكيت آخر فكأنه قيل: بل ألكفاركم براءة وأمن من تبعات ما يعملون من الكفر والمعاصي وغوائلها في الكتب السماوية فلذلك يصرون على ما هم عليه ولا يخافون، واختار بعضهم في هذا أنه خاص بالكفار، وقالوا في قوله تعالى: {أَمْ يَقولونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ} إنه إضراب من التبكيت المذكور إلى تبكيت آخر بطريق الالتفات للإيذان بإفضاء حالهم إلى الإعراض عنهم وإسقاطهم عن رتبة الخطاب وحكاية قبائحهم لغيرهم، أي بل أيقولون واثقين بشوكتهم نحن جماعة أمرنا مجتمع لا يرام ولا يضام، أو {مُّنتَصِرٌ} من الأعداء لا يغلب، أو متناصر ينصر بعضنا بعضًا.
والذي يترجح في نظر الفقير أن الخطاب في الموضعين خاص على ما يقتضيه السياق بكفار أهل مكة أو العرب وهو ظاهر في الموضع الثاني لا يحتاج إلى شيء، وأما في الموضع الأول فوجهه أن تكون الإضافة مثلها في الدراهم كلها كذا، وطور سيناء، ويوم الأحد ولم يقل أأنتم للتنصيص على كفرهم المقتضى لهلاكهم، ويجوز أن يعتبر في {أكفاركم} [القمر: 43] ضرب من التجريد الذي ذكروه في نحو {لَهُمْ فِيهَا دَارُ الخُلْدِ} [فصلت: 28] فكأنه جرد منهم كفار وأضيفوا إليهم، وفي ذلك من المبالغة ما فيه، ويجوز أن يكون هذا وجهًا للعدول عن أأنتم، وربما يترجح به كون الخيرية المنفية باعتبار لين الشكيمة في الكفر وكأنه لما خوف سبحانه الكفار الذين كذبوا الآيات وأعرضوا عنها، وقالوا هي سحر مستمر بذكر ما حل بالأمم السالفة مما تبرق وترعد منه أسارير الوعيد قال عز وجل لهم: لم لا تخافون أن يحل بكم مثل ما حل بهم أأنتم أقل كفرًا وعنادًا منهم ليكون ذلك سببًا للأمن من حلول نحو عذابهم بكم أم أعطاكم الله عز وجل براءة من عذابه أم أنتم أعز منهم منتصرون على جنود الله تعالى وعدل سبحانه عن أم أنتم جميع منتصر إلى ما في النظم الجليل للإشارة إلى أن ذلك مما لا تحقق له أصلًا إلا باللفظ ومحض الدعوى التي لا يوافق عليها فتأمل، فأسرار كلام الله تعالى لا تتناهى، ثم لا تعجل بالاعتراض على ما قلناه وإن لم يكن لنا سلف فيه حسبما تتبعنا، ثم إن {جَمِيعٌ} على ما أشير إليه بمعنى الجماعة التي أمرها مجتمع وليس من التأكيد في شيء بل هو خبر {نَحْنُ}، وجوز أن يكون بمعنى مجتمع خبر مبتدأ محذوف وهو {أَمْرُنَا} والجملة خبر {نَحْنُ} وأن يكون هو الخبر والإسناد مجازي، و{مُّنتَصِرٌ} على ما سمعت إما بمعنى ممتنع يقال: نصره فانتصر إذا منعه فامتنع.